
بغداد | مع اشتداد وتيرة الضغوط الدولية والإقليمية الهادفة إلى إعادة رسم خريطة التوازنات الأمنية في العراق، عادت إلى الواجهة محاولات حثيثة لـ«نزع سلاح فصائل المقاومة»، تحت عناوين من مثل «فرض هيبة الدولة» و«ضمان استقرار البلاد». وقابلت الفصائلُ تلك المحاولات، التي تنامت عقب وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل وتوقّف الهجمات ضد القوات الأميركية في العراق، بخطاب تصعيدي يرفض ما وصفته بـ«الإملاءات الخارجية»، ويربط سلاحها بـ«شرعية عقائدية ووجودية».
وفي هذا السياق، استغلّ المتحدث الأمني باسم «كتائب حزب الله»، أبو علي العسكري، مراسم عاشوراء في كربلاء، ليوجّه انتقاداً لاذعاً إلى مروّجي دعوات نزع السلاح؛ وكتب على منصة «إكس» أن «نعيق المتخاذلين ينساق إلى صيحات الإجرام الصهيو - أميركي للتخلّي عن سلاح المقاومة في المنطقة، ومنه سلاح المقاومة في العراق الذي حمى الدولة والمقدّسات حينما انهزم الجمع وكادت بغداد تسقط»، مضيفاً: «سلاح المقاومة هو وديعة الإمام المهدي عند المجاهدين… وقرار التخلّي عنه لا يكون إلا بيد الإمام». وأعقب كلامَ العسكري تصريحٌ مماثل من الأمين العام لـ«كتائب سيد الشهداء»، أبو آلاء الولائي، أكد فيه أن «إلقاء السلاح في مواقف الكرامة لن ينتج منه، في ما بعد، إلا الذل والهوان».
وجاءت هذه التصريحات في ظلّ أجواء مشحونة، لتمثل ردّاً غير مباشر على خطابَين بارزين صدرا أخيراً من النجف والحنانة، تمثّلا بدعوة ممثل المرجعية الدينية، عبد المهدي الكربلائي، إلى «حصر السلاح بيد الدولة» ورفض «التدخلات الخارجية»، وبيان زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الذي ربط بين الإصلاح ونزع «السلاح المنفلت»، مطالباً بـ«حلّ الميليشيات» وتقوية المؤسستين العسكرية والأمنية.
ويؤكد مصدر قيادي في أحد الفصائل، طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ«الأخبار»، أن «قنوات تواصل فُتحت مع الفصائل من قبل جهات رسمية عراقية، تحديداً بعد التصعيد الأخير بين طهران وتل أبيب، وعُرض عليها خلالها التخلّي عن سلاحها قبل تغيّر الظروف الإقليمية وتحوّل العراق إلى ساحة مواجهة»، مضيفاً أن «المقترح رُفض بالإجماع تقريباً»، وأن «القيادات اعتبرته فخاً أميركياً يُراد تمريره عبر أطراف داخلية».
ثمة أكثر من 60 فصيلاً مسلحاً ضمن «هيئة الحشد الشعبي» أو خارجها
ويشير إلى أن «دعوة المرجعية غير ملزمة للفصائل، خصوصاً تلك التي تنتمي عقائدياً إلى خطّ ولاية الفقيه». ويعتقد السياسي العراقي، محمد الشمري، من جهته، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «أي محاولة لنزع السلاح من دون حلّ سياسي عادل وشامل ستكون فاشلة، وستدفع البلاد إلى مرحلة اضطراب جديدة»، مضيفاً أن «تجربة إخراج الاحتلال الأميركي عام 2011 جاءت بفعل توازن الردع الذي شكّلته المقاومة، والعودة اليوم إلى التلويح بنزع سلاحها هي استجابة لضغوط أميركية - خليجية تتجاهل تعقيدات الواقع العراقية».
ويرى مراقبون أن هذا الحراك السياسي حول مسألة السلاح، يتقاطع مع التفاهمات الأميركية - العراقية بشأن إنهاء وجود «التحالف الدولي» في أيلول 2026، والتي قد تُستخدم كورقة ضغط على الفصائل من أجل تقليص دورها أو تفكيكها تدريجياً. وتقدّر تقارير أمنية غير معلَنة اطلعت عليها «الأخبار»، وجود أكثر من 60 فصيلاً مسلحاً ضمن «هيئة الحشد الشعبي» أو خارجها، يتمتّع بعضها بإمكانات عسكرية متقدّمة، تشمل صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وطائرات مسيّرة، وبنى استخبارية مستقلة، ما يعقّد أي محاولة لنزع السلاح من دون اتفاقات شاملة وتفاهمات إقليمية واضحة.
وفي ظلّ الانقسام السياسي بين داعم لخطاب المقاومة ورافض له، تبدو الحكومة العراقية في موقعٍ لا تُحسد عليه، إذ تُطالَب بفرض القانون من جهة، وتحاشي المواجهة المباشرة مع قوى مسلّحة مؤثرة من جهة أخرى، بينما يتصاعد الضغط الشعبي والمرجعي والدولي لوضع حدّ لما يوصف بـ«الفوضى الأمنية» ومظاهر «الدولة الموازية».
لكن المحلل السياسي المقرّب من «الإطار التنسيقي»، علي كاظم الركابي، يعرب، في حديث إلى «الأخبار»، عن اعتقاده بأن «الترويج لفكرة نزع سلاح المقاومة في هذا التوقيت بالذات لا يخدم المصلحة الوطنية، بل يُراد منه تفريغ الساحة العراقية من عناصر الردع الشعبي، تماشياً مع تفاهمات إقليمية ودولية لا تُراعي حساسية الوضع العراقي». ويؤكد أن «الفصائل ليست جهات خارجة عن القانون، بل شريكة في تحرير العراق من داعش، وبعضها منضوٍ رسمياً ضمن مؤسسات الدولة، ومحاولة تفكيكها الآن تهدف إلى خلق فراغ أمني لا يمكن أن تملأه القوات الرسمية وحدها في ظلّ التحديات القائمة».
الى ذلك أكّد رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، أن حصر السلاح بيد الدولة هو من أولويات حكومته، مشدّداً على رفضه لأي مزايدات سياسية أو محاولات لمصادرة قرار الدولة في السلم والحرب أو في العلاقات الخارجية.
وقال السوداني في بيان صادر عن مكتبه الإعلامي، إن «حصر السلاح بيد الدولة من أساسيات بناء الدولة، والحكومة ماضية وفقاً لخطة لتحقيق هذا الهدف»، مشيراً إلى أن «العراق وسط منطقة تعجّ بالعنف وابتدأت بها الحرب، بالعدوان الذي شنه الكيان الصهيوني ضد الأمة الإسلامية».
وقال إنّ مجلس الوزراء العراقي لن يسمح «لأي طرف أو جهة بالمزايدة على ثوابتنا ومبادئنا، وخاصة حين التحدث عن سيادة القانون الذي يحمي الجميع»، مضيفاً أن «الدولة بمؤسساتها الرسمية هي المعنية بقرار السلم أو الحرب أو العلاقات الخارجية».
وشدّد السوداني على أن «الاعتداءات المستمرة في غزة ولبنان واليمن، وآخرها على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تحتم علينا موقفنا المبدئي الواضح والتصرف بحكمة»، موضحاً أن «الحفاظ على المصالح العليا للعراق والعراقيين خط أحمر، ولن نسمح بأن تكون بلادنا جزءاً من ساحة الحروب والصراعات»، بحسب البيان الذي وزعته وكالة الأنباء العراقية «واع».
وختم بالقول إن «الاستمرار في عملية البناء والتنمية والإعمار لبلدنا، بنظرة متساوية بلا تمييز لكل العراقيين، بأطيافهم المتنوعة، هو خيار إستراتيجي لا تراجع عنه».